مغالطات الريسوني في قضية الإجهاض 2/2
أما المغالطة الرابعة في كلمة الريسوني حول الإجهاض فهي ادعاؤه أن (هناك أجماعا بين المذاهب على شيء مهم جدا وهو أن إسقاط الجنين فيه الدية ، والدية لا تكون إلا في القتل ، إسقاط الجنين فيه الدية على من أسقطه ولو كان هو الأم أو الأب ). لاشك أن إطلالة سريعة على كتب الفقه ، أو نقرة بسيطة على محرك غوغل كافيتان لتمِدّ أي باحث بكم هائل من الفتاوى والآراء الفقهية المجيزة للإجهاض على اختلاف المذاهب والعصور . وسيدرك أي باحث أن المذاهب الفقهية تكاد تُجمِع على جواز الإجهاض قبل نفخ الروح في الجنين ، خلافا لما يفتي به الريسوني . ومما استدل به الفقهاء :
1. أن كل ما لم تحلّه الروح لا يبعث يوم القيامة، ومن لا يبعث فلا اعتبار لوجوده، ومن هو كذلك فلا حرمة في إسقاطه.
2. أن الجنين ما لم يتخلق فإنه ليس بآدمي، وإذا لم يكن كذلك فلا حرمة له ومن ثم فيجوز إسقاطه.
قال المرداوي رحمه الله في “الإنصاف” (1/386) : ” يجوز شرب دواء لإسقاط نطفة . ذكره في الوجيز ، وقدمه في الفروع . وفي مذهب الحنفية : يباح الإسقاط بعد الحمل، ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مئة وعشرين يوماً؛ لأنه ليس بآدمي. وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق: نفخ الروح. ومن الأعذار التي أجاز بها الأحناف الإسقاط : أن ينقطع لبن الأم بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه.
قال النووي: “اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر”وقال ابن حجر: “اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر” وروى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة”.فقوله صلى الله عليه وسلم: “ثم ينفخ فيه الروح” جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً. وجواز الإسقاط قبل نفخ الروح، هو قول الحنفية والشافعية والحنابلة.
إن المجتمعات البشرية تطور قوانينها وترقى بها إلى ما يحقق إنسانية الإنسان ويصون كرامته ، بينما ظل الفقهاء متشبثين بالنصوص الدينية التي لم تعد تصلح لواقع المجتمعات المعاصرة وقيمها ( السبي ، الجواري وملك اليمين ، العبيد ، قطع الأطراف ..) . هذه الممارسات تم منعها في الدول الإسلامية بضغط من الأمم المتحدة وليس من المجامع الفقهية ودور الإفتاء في العالم الإسلامي . لهذا لا يمكن للفقهاء أن يكونوا مشرّعين أو قادة للدول ؛ ولهذا انقلب المسلمون على الدولة الدينية ، أي دولة الخلافة لصالح الدولة المدنية التي تتبنى في تشريعاتها القوانين المدنية وحقوق الإنسان والمساواة في الحقوق والمواطنة لكل أفرادها : ذكورا وإناثا ، وطوائف وأقليات عرقية أو دينية . والنضالات التي تخوضها الأحزاب والحركات النسائية والحقوقية في المغرب إنما بغرض الارتقاء بمنظومتنا القانونية وتنقيتها من مخلفات الدولة الدينية التي تعوق التحديث والتنمية والمساواة . فالذي يصون حقوق المرأة والطفل ليس تجريم الإجهاض والعلاقات الرضائية وفرض الوصاية على النساء وحرمانهن من التصرف في أجسادهن ، ولعلم الريسوني أن العلاقات الرضائية المتفشية في صفوف الإسلاميين تتجاوز تلك المنتشرة في عموم المجتمع (الزواج العرفي بين طلبة الجامعات بعبارة "زوجتك نفسي" ، الفضائح الأخلاقية التي تورطت فيها قيادات دعوية وحزبية ..)؛ بل الذي يصون الحقوق هو الارتقاء بالقوانين ومواءمتها مع منظومة حقوق الإنسان في بُعدها الكوني ، والتي تناهض كل أشكال التمييز ضد النساء ، ومن ضمنها منع الإجهاض التي تعتبره لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالقضاء على كل أشكال التمييز ضد النساء شكلا من أشكال التمييز ضد النساء، وانتهاكا لحقوقهن في الحياة والصحة. كما تعتبر اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) أن الأمومة اختيار حر للمرأة، إذ تنص المادة 16 من الاتفاقية على أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية، وعلى أساس المساواة بين الرجل والمرأة. والمغرب ملزم باحترام هذه الاتفاقيات التي صادق عليها وجعلها أسمى من التشريعات الوطنية ، كما ينص على هذا الدستور . أما آراء الريسوني وفتاواه وأمثاله من المتشددين فلن تحول دون عصرنة منظومتنا القانونية . إنه منطق التاريخ وقوة الواقع وحركية المجتمع .ولا يمكن أن ننتظر من الريسوني أو نطلب منه تغيير آرائه وفتاواه. فهو أحد منظّري تنظيمات الإسلام السياسي الذين ناهضوا كل حقوق النساء ومطالبهن بما فيها حق الولاية على أنفسهن في الزواج . ولعل المذكرة التي رفعتها حركة التوحيد والإصلاح التي كان يرأسها ،حينها ، الريسوني إلى اللجنة الملكية الاستشارية لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية سنة 2000 ، خير دليل على تحجّر هذه التنظيمات وتكلّس تفكيرها . ولا أمل ولا رجاء من الإسلاميين الذين يفكرون من داخل مرجعية ابن تيمية والمودودي وقطب المناهضة لحقوق النساء ولكل القوانين والأنظمة المدنية ، أن يساندوا الحركة النسائية والحقوقية في مطالبها المستندة إلى منظومة حقوق الإنسان . فالذي يحرّم على الزوجة أن تستفيد من كدّها وسعيها خلال فترة الزواج باقتسام الممتلكات التي تراكمت في حالة طلاقها ، أي الذي يحكم على المطلقة التي لا مورد مادي لها بالتشرد ، لن يقبل أن يكون جسدها ملكا لها . هؤلاء الفقهاء ،والريسوني على رأسهم، رفضوا أن تملك المرأة حق تطليق نفسها دون موافقة الزوج ، وظلوا يصرون على إبقاء الزوجة رهينة بيد الزوج ، أي تظل بمثابة جارية أو أمَة لا تملك الحق في إنهاء العقد الذي يربطها بمالكها ؛ وفي حالة تشبثت الزوجة/الجارية بالطلاق فليس لها سوى أن تفتدي نفسها باللجوء إلى طلاق الخلع الذي يشترط عليها إرضاء الزوج بالمال والتنازل عن كل الحقوق من نفقة ومتعة وحضانة.
أمام الفتاوى المتشددة التي يلوّكها الريسوني وأمثاله ، سيكون من الواجب دعوة وزير العدل وأعضاء لجنة التشريع إلى الاستنارة بآراء العلامة الأستاذ أحمد الخمليشي ،مدير مؤسسة دار الحديث الحسنية ، في موضوع الإجهاض حيث أكد ، أكثر من مرة ، غياب نص صريح بالقرآن والحديث النبوي يقول بتحريم أو إباحة الإجهاض . ومن ثم اعتبر الإجهاض" ليس مشكلا قانونيا، بل هو مشكل اجتماعي يتطور بتطور ملابسات الحياة الاجتماعية، وبالتالي يصعب أن يوضع له نص واحد يسري في كل زمان ومكان". الأمر الذي يوجب وضع نص قانوني يواكب حركية المجتمع وينسجم مع التزامات المغرب الدولية ، بحيث يقر للمرأة الحق في التصرف في جسدها كما هو الحال بالنسبة للرجل ، ويحمي المصلحة الفضلى للطفل ، سواء وُلد في إطار الزواج أو خارجه ، وذلك بإلحاقه بأبيه البيولوجي ضمانا لحقوقه وحماية له من التشرد ، وفي نفس الوقت وضع حد للإفلات من العقاب الذي يعفي الرجل من مسؤولية الإنجاب خارج إطار الزواج ويحملها للأم وحدها. فـ "الدين أرفع من أن ينطق به أي كان" على حد قول العلامة أحمد الخمليشي .